في حيّ الزيتون شرق مدينة غزة، ذاك الحيّ الذي يُزرع فيه الزيتون كما تُزرع الأرواح في الثرى، سقط الكفيف أحمد طافش شهيدًا يوم 1.9.2025، لم يكن يحمل بندقية، ولا يكتب على حائط منزله شعارات النصر، بل كان يحمل شيئًا أعظم: بصيرة من نور، وإرادة من صخر، وقلبًا لا يلين في مواجهة الإبادة.
أحمد الكفيف الذي أُطفئت عيناه منذ زمن، رفض أن يطفئ روحه. حين قيل له أن يرحل، أن ينزح، أن يبحث عن "الأمان" الذي لا مكان له في غزة، قال كلمته التي ستظل شاهدة على زمن الانكسار العالمي: "انا بطلعش من الحارة، بدي روبوت يفجرني، يلي بطلع من داره بقل مقداره، حسبي الله ونعم الوكيل، الحارة فاضية، لمين سايبين الحارة "، كأنه يقول: اقتلعوني كما اقتلعتم زيتوننا ومنازلنا وذكرياتنا، أو دعوني أقف كجذور لا تموت، في أرض لا تُباع ولا تُشترى.
الاحتلال ارسل روبوت محمل بالمتفجرات نحو مكان وجوده، فجروه ليرتقي شهيدا، حيث تكثف قوات الاحتلال عملياتها العسكرية في مدينة غزة، مستخدمة مركبات، و روبوتات مفخخة ضخمة، لنسف المباني السكنية،ومسح السكان عن وجه الارض، اودفعهم إلى النزوح.
عاش احمد كسكان غزة، ليال مرعبة على وقع الانفجارات والقنابل الحارقة، وإطلاق النار الكثيف في إطار خطة الاحتلال السيطرة على المدينة ، وتهجير اهلها، أحمد لم يكن بحاجة إلى عينيه ليبصر الحقيقة، فالحقيقة لا تسكن في الضوء، بل في القلب. رأى أن النزوح خيانة صامتة، والتشرد موت مؤجل، والقبول بالرحيل مساهمة في الجريمة الكبرى: تطهير الأرض من أصحابها.
هو لم يغادر، لأنه فهم أن الغياب هو بداية الهزيمة، وأن الخطوة الأولى في المنفى تبدأ بخطوة واحدة داخل بيتك، حين تقتنع أن السلامة في الفرار، هو لم يفر، ولم يبحث عن قنصلية تحميه، ولا عن خيمة تُغطي جرح المكان.
استُشهد أحمد والعالم صامت، صمت يُشبه التواطؤ، صمت يُشبه الموافقة، صمت يُشبه طقطقة مفاتيح في أروقة الأمم، توحي بأن "العدالة تحت الإعداد"، لكن الإبادة مستمرة، والقصف لا ينتظر بيانات الشجب، والركام صار لغة يومية، يُكتب بها تاريخ هذا الشعب.
أحمد لم يكن مجرد شاب كفيف في غزة، أحمد كان "العين المفقوءة" التي ترى ما لا نراه، نحن الذين تبلدنا امام الشاشات ، واعمتنا البيانات، وخدّرنا بوعود عن الدولة التي تموت تحت القصف قبل أن تُعلن ميلادها، موته شهادة، ليست فقط على ظلم الاحتلال، بل على انكشاف العالم، على العمى الأخلاقي الجماعي، على هشاشة القيم التي يتغنى بها الغرب وهو يعدّ صفقات السلاح.
أحمد الآن في مكان لا تصله الطائرات، ولا يُهدّمه القصف، احمد في الملكوت الاعلى، لكن روحه تسكن الحارة. تقف على مفترق الطرق، تشير إلينا بأن نقف، لا نرحل، لا نُطأطئ الرؤوس، لقد رأى أحمد، دون عينين، ما لم نرَه نحن بكل هذا الضوء: الثبات في زمن الإبادة مقاومة، الكرامة لا تحتاج إلى بصر، بل إلى قرار.
غزة تودّع أحمد، ولكنها تُنجب منه ألفًا، وفي كل زقاق، قد يُولد كفيف آخر، يرى أكثر منّا جميعًا، احمد لم يغادر، ترك لنا صرخة، وترك لنا وصية، وترك لنا بصيرة لاتقاس بالعينين، بل بطريقة عبور الحياة: ندا واقفا في وجه الابادة، احمد علمنا أن نعيد تعريف البطولة.
احمد هو من صادق الظلال، وتآلف مع الغموض، وتعلم لغة الطائرات والصوارخ والضجيج، وعلم نفسه كيف يرى بغير عينين، وبعكازته شق بحر الحصار، وتحدى الاحتلال والإعاقة، قلبه النابض كان يشعل العتمة، وفي زمن يتخبط فيه المبصرون.
ما رآه احمد هو الحقيقة كلها: رأى أن الإبادة ليست على غزة فقط، بل على الوجود الفلسطيني برمته، ورأى الهولوكست، ولكن هذه المرة بنسخ متطورة، رأى محرقة على الهواء مباشرة، لا افران غاز بل قنابل أمريكية أوروبية ذكية، رأى جوعى، واشلاء، وعائلات كاملة تشطب من سجل الحياة، ورأى وطنا يذبح تحت عيون الكاميرات.
في وجه الغارات والطائرات الذكية، التي ترى كل شيء، وقف احمد طافش الذي لا يرى شيئا، لكنه لا يخاف، الجسد العاجز فيه روح لا تهزم، ونسمعه يقول: حتى وإن كسر جسدي، فإن روحي لم تقهر.
احمد لا يرى بعينيه، لكنه يرى بحواسه الأخرى: بالصوت، بالذاكرة، بالكرامة، فالإنسان لا يختزل في وظائفه الجسدية، بل في إرادته الحرة، فالعين العمياء مرآة لداخل يرى بوضوح يفوق البصر.
احمد لم ير غزة فقط، إنما ما هو ابعد، استهداف الكينونة والهوية الوطنية، واغتيال التاريخ والذاكرة، وظل احمد الاعمى يصرخ ويسأل: كيف نباد واعين العالم مفتوحة؟