
العلاقات الأميركية الإسرائيلية: أيّ معادلة جديدة؟ عبد المجيد سويلم
بدت العلاقات الأميركية الإسرائيلية وكأنها تدخل مرحلة جديدة مختلفة عن السياق الذي سارت عليه عموماً، ومختلفة عن سياقها في إطار الحرب العدوانية التي تتواصل في منطقة الإقليم بأشكال ووتائر جديدة بعد توقفها على قطاع غزّة.
وكالعادة بدأت نقاشات "جديدة" حول ماهيّة جديد هذه العلاقة، وانقسمت بين من يرى فيها مجرّد سحابة صيف عابرة ما ستلبث أن تعود إلى سابق عهدها، وإلى سياقها الطبيعي المعهود، وأن لا وجود لأي تغيّرات تستدعي وصفها بالمرحلة الجديدة، لأن الجديد فيها لا يغير من طبيعتها، ولا يؤسّس لأي جديد حقيقي في المدى المرئي.
بالمقابل كان هناك من يرى أن العلاقة قد دخلت فعلاً في مرحلة جديدة تتسم بتراجع كبير في تأثير بنيامين نتنياهو على أقطاب الإدارة الأميركية، وفي قدرة اللوبي الصهيوني على ممارسة دوره التقليدي في الضغط على هذه الإدارة بما يصل وقد وصل فعلاً إلى "تنصّل" دوائر وأوساط أميركية من تبعيتها، وأحياناً خضوعها لدائرة تأثير هذا اللوبي عليها، وبما يوحي أن ثمّة معادلة جديدة تنشأ بموجبها علاقة من نوع جديد يتمثل في أن هذه الإدارة باتت تُمسك بزمام الأمور في دولة الاحتلال، وباتت هي صاحبة القرار، وأن الأخيرة باتت تحت الوصاية الأميركية المباشرة، على مستويات مختلفة بما في ذلك المستوى التنفيذي المباشر.
يتفرّع بطبيعة الحال عن هذين الرأيين الكثير من النقاشات والأفكار والآراء التي تتصل بنمط شخصية دونالد ترامب، وبالحالة، وربما الظاهرة "الترامبية" على مستوى المنطلقات والأفكار الموجّهة لسياساتها، وعلى مستوى الأهداف الإستراتيجية التي تتوخّى تحقيقها، وكذلك على مستوى العوائق والتحديات التي تتصدى لها، بما في ذلك الأخطار التي من شأنها أن تطيح بكامل هذه الظاهرة من على خشبة المسرح السياسي في أميركا.
كما تتصل هذه النقاشات المتفرّعة على الجهة المقابلة من الجانب الإسرائيلي بنمط "اليمين" الفاشي الحاكم في دولة الاحتلال، وسعي هذا "اليمين" إلى الاستثمار في خصوصية العلاقة الأميركية الإسرائيلية باتجاه المصالح الخاصة به، وفي توسيع دائرة هذه المصالح على حساب المصالح الأميركية، وبما يتناقض مع هذه المصالح، وصولاً إلى تهديدها في بعض المنعطفات.
مهمّة استقراء جديد العلاقة الأميركية الإسرائيلية ما زالت مبكّرة، وما زال الكثير من معطياتها، وربما خفاياها إمّا أنها غامضة ومنقوصة، وإما أنها حساسة وخطيرة لدرجة تستدعي الإبقاء على وتيرة معيّنة منها، وعلى أشكال معيّنة من وسائل التعبير عنها.
لكن لماذا ظهرت بصورة تكاد تكون مباغتة هذه الصورة الجديدة من العلاقة الأميركية الإسرائيلية؟ ولماذا بدأت هذه النقاشات؟ ولماذا اشتعلت داخل دولة الاحتلال؟ ولماذا ينشغل المجتمع السياسي فيها بهذه العلاقة الآن؟ ولماذا هذه الدرجة من الاهتمام الإسرائيلي إعلامياً بهذه العلاقة "الجديدة"؟ وقبل هذا كلّه، لماذا هذا الاهتمام داخل أميركا نفسها بجديد هذه العلاقة بالذات؟
من الواضح أن هذا النقاش، وهذه الآراء والأفكار لم تكن لتظهر على كل المستويات بهذه الصورة التي تشبه الموجة، لولا أن هناك ما يؤشّر على جديد ما، وربما جديد كبير على صعيد هذه العلاقة، ولولا أن مظاهر هذا الجديد قد تجاوزت مرحلة التكهّنات والتوقّعات، وباتت على جدول الأعمال، وفرضت نفسها، وتحولت إلى مسألة تحظى بكل هذا الاهتمام.
على هذا الأساس بالذات فإن وجهة النظر الأولى التي لا ترى في العلاقات الأميركية الإسرائيلية ما هو جديد؟ أو ما هو غير معتاد تصبح خارج منطق هذه النقاشات، وهي على الأغلب وجهة نظر تفتقر إلى أي وقائع أو أسانيد، وفاقدة لكل اعتبارات المنطق الموضوعي.
أما وجهة النظر الثانية من أن العلاقة باتت في وضع الحالة الانقلابية، وأن جديد هذه العلاقة بات مرحلة نوعية جديدة تكاد تقطع مع ماضيها، فهي، أيضاً، تفتقر إلى عنصر المنطق الموضوعي، لأن مثل هذا القطع يتنافى مع طبيعة العلاقة التاريخية الخاصة التي تحفظ مصالح الطرفين، وحيث يستحيل تحقيق مصالح أي طرف بمعزل عن المصالح الخاصة بالطرف الآخر.
ولهذا كلّه فإن الجديد في هذه العلاقة هو جديد نابع من اعتبارات جديدة ليس لها صلة مباشرة أو عضوية بعلاقة الشراكة الراسخة بين أميركا ودولة الاحتلال، وليس له صلة مباشرة بخصوصية هذه العلاقة ومتانة هذه الخصوصية، وإنما ــ وهذا هو الجديد الحقيقي ــ يتعلّق بالفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف الكبرى للحرب الهمجية على مدى عامين كاملين من الإبادة والإجرام، وهو الفشل الذي بات يهدد قدرة أميركا من وجهة نظر إدارتها على الإمساك بزمام أمور الإقليم، والذي تجاوز ذلك إلى تهديد سيطرة الحزب الجمهوري، وترامب على الأغلبية في الكونغرس، وبما سيصل على الأغلب إلى سقوط الأخير وإدارته في الانتخابات القادمة، ناهيكم عن "النصفية".
أميركا باتت ترى أن الفشل الإسرائيلي، والذي هو الوجه الآخر للفشل الأميركي في منطقة هي آخر ما تبقّى لها من منطقة للنفوذ الأميركي، وفيها تتركّز مصالح أميركية ضخمة على مستوى الطاقة، والممرّات البحرية والتجارية، والفوائض المالية، والموقع الإستراتيجي في إطار أهمية العنصر الجيوسياسي في المعادلة الدولية.
الولايات المتحدة تعرف أنها خسرت الحرب في أوكرانيا، وخسرت المبارزة الاقتصادية مع الصين، وتتلاشى مصالحها في إفريقيا وآسيا، وكذلك أميركا الجنوبية والوسطى وهي لن تستطيع المغامرة بهذه المصالح في إقليم الشرق الأوسط، لأن الخسارة هنا ليست من النوع الذي يمكن تعويضه، وهي خسارة ستفقد معها الولايات المتحدة قاعدة الارتكاز الأولى إن كان على صعيد الانتشار العسكري، أو السيطرة البحرية والتحكّم بالممرّات العالمية للتجارة الدولية، أو على صعيد حرب الطاقة التي تمثل خسارتها الضربة الاقتصادية القاضية.
لم يكن الدور الإسرائيلي على مدى تاريخ الصراع في هذا الإقليم إلّا دوراً يعزّز من الهيمنة الأميركية عليه، ولم تكن السياسة الأميركية إلّا شكلاً من أشكال التماهي مع المصالح الإسرائيلية، ولم تكن سياسة أميركا إلّا سياسة الدعم المطلق لإبقاء الدولة العبرية في موقع التفوّق والسيطرة والتحكّم، لأنها هي عوامل مباشرة وفاعلة في تحقيق هذه المصالح.
ولأن منظور "الترامبية" أصبحت له اعتبارات جديدة، وهي "عظمة" أميركا، ولأن ترامب يرى في ذلك ممرّاً إجبارياً لإعادة التوازنات عالمياً بعد الخسارات الكبرى مع روسيا عسكرياً، ومع الصين اقتصادياً، فقد انبرت الولايات المتحدة الآن إلى الطريقة التي تحافظ بها على التحكّم بإقليم الشرق الأوسط الذي بات يمثل الثقل الأكبر في السياسة الدولية لها، وبات من المستحيل ترك مصيره في أيدي من ثبت بالملموس أنهم "يلعبون" لعبة المغامرة بكل شيء لمصالح خاصة إسرائيلية قبل أن تكون أميركية أو مشتركة، وباتوا على استعداد لأن يستثمروا في العلاقة الأميركية الإسرائيلية لتحقيق هذه المصالح الخاصة أوّلاً، وقبل مصالح أميركا، بل وباتوا يستخدمون كل نفوذهم في أميركا نفسها لتحقيق المصالح الإسرائيلية الخاصة، وأصبح ترامب أمام خيارات جديدة لوقف هذا التدهور في منظومة الأولويات الداهمة والعاجلة بعد أن تحوّلت الحرب العدوانية إلى الآلية التي تفقد من خلالها أميركا سيطرتها على زمام الأمور في الإقليم.
فشل حرب الإبادة والإجرام والتجويع أصبح يمتدّ إلى داخل أميركا بعد أن قرأت الإدارة الأميركية، وقرأ ترامب معطيات التحوّلات الكبيرة في الرأي العام الأميركي، وبعد أن وصلت العزلة الأميركية إلى ما وصلت إليه جرّاء التماهي الأميركي مع الإبادة والتجويع الذي أوصل دولة الاحتلال إلى عزلة خانقة، وبعدما أصبح الفشل الإسرائيلي عاماً وشاملاً بحيث أن هذا الفشل لم يعد فشلاً ميدانياً، وإنّما وصل إلى تهديد بنية المشروع الصهيوني، وليس مجرّد سياسات الدولة العبرية، وبات الفشل مفتاحاً، أو بداية لتفكيك الدور الإسرائيلي في منطقة الإقليم، وبات هذا التكتيك المتصاعد في الدور الإسرائيلي على مستوى الإقليم سبباً مباشراً لوضع حد "للتلاعب" الإسرائيلي بالمصالح الأميركية.
ما تقوم به الإدارة الأميركية من ضبط ورقابة على التلاعب الإسرائيلي هو إجراء احترازي يفوق في أهميته كل جديد، وهو بداية جديدة لتصحيح العلاقة لكي تعود إلى طبيعتها من حيث إنها علاقة شراكة بالشروط الأميركية.