وتبقى معضلة وقف الحرب في أخطر مراحلها بقلم د. سنية الحسيني

تتجه الرؤية الإسرائيلية إلى إبقاء سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع وإشراف على المعابر الحدودية بعد الحرب، بينما تُفضّل الرؤية الأميركية انسحاباً تدريجياً لإسرائيل من غزة مع إشراف دولي مؤقت، لحين استلام السلطة الفلسطينية، في حين يؤكد الوضع الميداني إستعادة حركة حماس لسيطرتها على الأراضي التي انسحب منها الاحتلال، في ظل إعلانها عن استعدادها لترتيب انسحابها من السلطة وحكم القطاع. وتعتبر الفجوة بين الرؤية الإسرائيلية والدولية لإدارة غزة وبين الواقع الفعلي على الأرض، التحدي السياسي والأمني الأكبر في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار.

بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة هناك واقع قد ظهر على الأرض تركته الحرب فيما يتعلق بإدارة القطاع، وهناك تصريحات إسرائيلية حول رؤيتها لإدارة القطاع، وهناك رؤية غربية ثالثة، في ظل بنود إتفاق غير محددة أو حاسمة تماماً.

يشكل الواقع على الأرض معضلة أمام تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب للسلام، التي لم توضح الجهة التي ستتولى السلطة التنفيذية أو الأمنية في غزة خلال الفترة الانتقالية، حيث أشار الإتفاق إلى أن: "انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية إلى خطوط متفق عليها مع وقف إطلاق النار".  كما أكد أحد بنود الخطة إلى أن حماس "لن يكون لها دور في حكم غزة" بعد الحرب.  

ميدانياً، قامت حركة حماس باستعادة السيطرة الأمنية في المناطق التي انسحبت منها قوات الاحتلال الإسرائيلية. وشنت قوات الحركة حملة استهدفت خارجين عن القانون خلال فترة الحرب. ويحيط بذلك الواقع تحديات لوجستية وإنسانية هائلة، فالبنية التحتية لغزة مدمّرة بالكامل تقريبًا، وحركة إدخال المساعدات لا تزال مقيدة من قبل الاحتلال، الذي يسيطر على حدود القطاع ومعابره المغلقة بالكامل، بما فيها معبر رفح، على الحدود مع مصر.

وتتناقض الرؤية الاسرائيلية لإدارة القطاع بعد الحرب تماما ًمع الواقع الموجود ميدانياً على الأرض، فيتطلع الاحتلال لنزع سلاح حركة حماس وإبعادها عن إدارة القطاع. وأكد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء حكومة الاحتلال في أعقاب الموافقة على خطة ترامب الأخيرة والاتفاق على تنفيذ المرحلة الأولى منها، والتي ترتب عليها انسحاب جزئي لقوات الاحتلال من غزة وتبادل للأسري، أن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية المسألة، وأنه سيسعى لتفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس بشكل كامل. كما جاءت تصريحات إسرائيلية رسمية حول نيتها تدمير جميع الأنفاق الموجودة في غزة بالقوة، اذ تُطالب حكومة الاحتلال بوجود ضمانات أمنية صارمة لمنع إعادة تسليح غزة في المستقبل، أو استخدام البنى التحتية فيها لأغراض عسكرية. وألمح نتنياهو إلى أن الإتفاق لا يشكل تقييداً كاملاً لمهامها في غزة، وأن الاحتلال يحتفظ بحق العودة للعمل العسكري إذا لم تُنفَّذ الالتزامات.

بذريعة عدم تسليم كافة جثث المحتجزين الإسرائيليين، وهو لم يكن أمراً واقعياً في ظل الفترة الزمنية المتاحة، والدمار الشديد في غزة، عمل الاحتلال بالفعل على خرق إتفاق وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه قبل أيام، بعد نجاح عملية تبادل الأسرى، كما قيد تدفق المساعدات، في الأيام التي تلت إعلان وقف إطلاق النار، فقد أُبلغت سلطات الاحتلال الأمم المتحدة بأنها ستقلّص حجم الشاحنات المسموح بها. أي أن الرؤية الإسرائيلية تتجه نحو إدارة أمنية مشددة مع إشراف كامل للاحتلال أو فترة انتقالية بظلال إسرائيلية، مع إقصاء كامل لحركة حماس من السلطة، كما ترفض تسليم السلطة الفلسطينية تلك المهمة أيضاً.

في حين تقوم الرؤية الدولية لإدارة القطاع في مركز وسط بين الواقع الميداني على الأرض وتطلع الاحتلال، أكد بيان نيويورك على ضرورة عودة إدارة القطاع إلى الفلسطينيين بعد انتهاء الحرب، وإن اشترط البيان أن يأتي ذلك بعد إصلاح السلطة الفلسطينية. كما أشار البيان إلى نزع سلاح حركة حماس، لكنه لم يوضح كيف يمكن أن يتم ذلك. وأشارت أيضاً خطة ترامب للسلام، ذات المقترحات العشرين، إلى تشكيل إدارة انتقالية، تحت إشراف دولي مؤقت، من قبل مؤسسات ودول مانحة، مع إشراك فلسطيني محدود، إلى حين ترتيب وضع فلسطيني رسمي مقبول. الأمر الذي يعني أن السلطة الفلسطينية ستكون شريكاً في التنسيق لحين استعادة السيطرة التدريجية. كما تطرح الخطة الأميركية إنشاء قوة دولية أو متعددة الجنسيات تعمل على تأمين المرافق العامة، وتدريب قوات شرطة فلسطينية جديدة، ومراقبة عملية نزع السلاح.  

ويبدو أن إسرائيل لا تريد أن تتحمّل مسؤولية الحكم المباشر في غزة، إلا أنها ترفض بالتزامن أن تترك فراغًا يمكن أن تملأه حركة حماس أو قوى أخرى فلسطينية، الأمر الذي يضعف أي إدارة انتقالية أو دائمة لغزة، لأنها ستخضع لرقابة إسرائيلية دائمة. وبينما تفترض رؤى دولية امكانية عودة السلطة لإدارة غزة، إلا أن كل ذلك يصطدم بواقع ميداني معقد في القطاع، حبث يتقاسم الميدان تنسيق فصائلي عائلي معقد يدير القطاع، كما كشفت عنه الحرب، ومن الصعب أن يفرض عليها سلطة خارجية بعيدة عن نسيجها المجتمعي المتأصل. كما أن سكان غزة قد فقدوا الثقة في الضمانات الدولية، التي فشلت في اتفاقيات سابقة لإعادة الإعمار وانصاف سكان القطاع، ويستمر القلق من أن تشكل أي قوة إنتقالية دولية "احتلالاً ناعماً".

لكن إلى أي مدى يمكن جسر الهوّة بين الواقع على الأرض، والمزعوب اسرائيلياً، وذلك المطلوب دولياً؟ والإجابة ببساطة أن الرؤيتين الاسرائيلية والدولية لن تنجحا في ضمان وقف إطلاق النار أولاً وإدارة القطاع واقعياً بعد ذلك. فرؤية اسرائيل تشير ببساطة لنيتها استمرار السيطرة بعد تبادل الأسرى، لتحقيق أهدافها الاحتلالية في غزة، وهو أمر غير واقعي أو مقبول الآن، خصوصاً بعد أن تعهد قادة العالم في شرم الشيخ بضمان وقف الحرب، إلا إن قبل العالم أن تتحدى إسرائيل تعهداته. كما أن الرؤية الدولية تفتقد للواقعية السياسية، التي يفرضها الوضع الميداني للقطاع، وطبيعة الشعب الفلسطيني، ونوايا الاحتلال المعلنة والخبيثة. قد يكون دور القوى الدولية لازماً الآن للتواجد في القطاع، أي قبل ترتيب اجراءات الإدارة المدنية فيه، وذلك لضمان وقف حقيقي للحرب، وردع الاحتلال عن مواصلة اعتداءاته في القطاع، وخرقه لإتفاق وقف إطلاق النار، كما يحدث فعلياً الآن. وتمهد اجراءات إسرائيل الحالية، والخارقة لشروط الهدنة الطريق لمواصلة الحرب، إما بشكل مباشر، او بأشكال أخرى غير مباشرة، لم يعد يغفل عنها الشعب الفلسطيني.

كما قد يكون من المفيد في مرحلة تالية، أي بعد ردع إسرائيل عن محاولتها العودة للحرب، بعد نجاح عملية تبادل أسرى، ترتيب ادارة انتقالية لإدارة القطاع تكون في الأساس فلسطينية متفق عليها داخلياً من كافة الطيف الفلسطيني، تعمل بتعاون وتنسيق دولي عربي، أي باشراف فني من قبل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي وسياسي أمني عربي، بدلا من فرض إدارة انتقالية دولية أو “مجلس رقابة” دولي. وقد يكون هذا النموذج الخيار الأكثر قابلية للتطبيق دون إعادة إنتاج الاحتلال. كما أظهرت التجارب الماضية أن أي خطة إعمار بدون ترتيبات سياسية داخلية، وتقويض عملية شرعنة النظام السياسي الفلسطيني في غزة، لن تنجح.

لا بد من العودة للحوار الوطني الفلسطيني الداخلي، بوساطة، أو إشراف، أو تنسيق عربي، أو بمبادرة فلسطينية، لترسيم واقع سياسي فلسطيني غير موجود اليوم، حتى اللحظة. وأثبتت الرؤية الإسرائيلية التي تضع الاعتبارات الأمنية قبل الاعتبارات السياسية، أن الأمن لم يتحقق، طوال العقود الماضية، لأن إسرائيل لم تعط بالاً للاعتبار السياسي الوطني الفلسطيني، بل عملت على تحطيمه. وبدون الإقرار بوجود الشرعية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، وبدون ممارساتهم للحياة الديمقراطية عبر الانتخابات الحرة والمباشرة لن تحظ إسرائيل بالأمن والاستقرار.

إن ذلك يضمن تحقيق مسار واقعي على المستوى الفلسطيني الداخلي وعلى مستوى علاقة الفلسطينيين مع ادارة حكومة الاحتلال. كما يضمن النظر إلى مقاربة إعمار غزة بمنظور أكثر عمقاً وواقعية يعكس واقع المجتمع الفلسطيني ويضمن نجاح تلك المهمة، التي تعد شديدة الضرورة بعد وقف الحرب، وبشكل مختلف عن جميع الحروب الماضية، لأن القطاع برمته تعرض للتدمير. فيجب أن تُدار المساعدات ومشاريع الإعمار عبر مؤسسات فلسطينية، بإشراف مشترك مع الأمم المتحدة، تضع باعتبارها خطة تنمية وتمكين فلسطينية متكاملة ومستقبلية، تضمن مشاركة الفلسطينيين في رسم مستقبلهم، وتحولهم من مجرد متلقين للمساعدات وطموحات ورؤى خارجية للإعمار إلى موجهين وشركاء في اعادة بناء وطنهم.

يوصلنا ذلك إلى المطلب المركزي الدولي، الذي ركز عليه مؤتمر نيويورك، بضرورة حل الدولتين، وإعلان الدولة الفلسطينية ذات القرار المستقل، والبعيدة عن التبعية للاحتلال. قد تكون حرب غزة الأخيرة قد ذكرت العالم بذلك الخطر، وبأن التغاضي عن استمرار الاحتلال وممارساته، رغم توقيع إتفاق أوسلو، وعدم التصدي لمخططات إسرائيل، مدعومة بقوتها الفعلية على الأرض لن يحسم القضية الفلسطينية، بل يأهل تجاهل حلها لانفجار قادم.

من غير الممكن ضمان استقرار الأوضاع في غزة او الضفة في ظلّ استمرار رقابة إسرائيلية ميدانية دائمة، لأنه طالما بقي الاحتلال سيبقي التوتر في فلسطين مستمرًا. إن قيام دولة فلسطينية قد يضمن الأمن أكثر من الوضع الاحتلالي القائم، فتعاون مستقبلي مشترك فلسطيني مصري أردني مع إسرائيل لضمان الأمن، يمكن أن يضمنه لجميع الأطراف. لابد من إصدار بيان مبادئ مشترك (أممي عربي أوروبي أميركي) يحدّد نهاية الدور القتالي الإسرائيلي داخل القطاع وفق جدول واضح، ويرفض "الوصاية المفتوحة" للاحتلال في غزة، ويوفر التزاماً بضمان انتقال منظم إلى هيئة مؤقتة، فالأطر الغامضة اليوم حول الانسحاب والقوة الدولية هي نقطة ضعف يجب معالجتها.

وتعكس وثيقة صدرت مؤخراً عن دائرة العمل الخارجي الأوروبية، لتُقيّيم خطة ترامب حول غزة، جميع تلك المخاوف وتحث الاتحاد على تعزيز نفوذه في عملية تعافي غزة. فأشارت الوثيقة لغموض الخطة، خصوصاً بشأن الدور الذي سيلعبه الفلسطينيون في غزة بعد الحرب، ودعت لضرورة أن يكون الاتحاد عضوًا في هيئة الإشراف على مجلس السلام المُستقبلي، وأن يستعين الاتحاد ببعثة قائمة تُعرف باسم "بعثة المساعدة الحدودية الأوروبية في رفح" لتوفير وجود محايد كجهة خارجية على معبر رفح الحدودي بين غزة ومصر.

وفي الختام، لابد من قرار دولي، يصدر عن مجلس الأمن يقدم ضمانات دولية واضحة وللمدى الطويل بحماية الفلسطينيين وتحقيق طموحهم السياسي المشروع بنيل الاستقلال، ويلزم إسرائيل بانهاء احتلالها لفلسطين. أي أن تقدم تلك المؤسسات أو المنظمات الدولية والاقليمية غطاءً شرعياً، لضمان تحقيق العدالة. وبدلاً من دورها التنفيذي الذي تتطلع له تلك المنظمات عليها دعم المؤسسات الفلسطينية لتكون الطرف الرئيس في عملية بناء الدولة الفلسطينية، بدلاً من فرض حلول على الفلسطينيين من الخارج. كما على الدول العربية أن تلعب دور الضامن الإقليمي، وليس مجرد وسيط عابر، لا يعنيه حل القضية الفلسطينية، فعليها أن تكون طرفاً مركزياً في الضغط لحلها، حتى لا يكون وقف إطلاق النار مجرد هدنة مؤقتة تنتظر الفرصة أو المسبب التالي لاعادة انفجارها.

 

 

 

أحدث الاخبار