استجابات ما بعد الحرب غير مشجّعة! مهند عبد الحميد


مرّت على الشعب الفلسطيني أصعب وأخطر حرب، وأصعب وأخطر نتائج حرب بما في ذلك حرب 48. وفي وضع كهذا تنثال الاستجابات التي من بينها مراجعة المسؤوليات والأداء ومعرفة عناصر القوة والضعف والأخطاء ومحاسبة الذات، أذكر تجربة حركة فتح بعد حرب 82 حين تحركت قيادات وكوادر في التنظيم لمحاسبة أداء قيادات عسكرية في جنوب لبنان، لكن المحاولة أُجهضت بتدخل نظام الأسد ومحاولته استخدام الحراك للسيطرة على «فتح» ومنظمة التحرير وإلحاقهما لغاية الاستخدام. وأذكر الاستجابة المصرية بعد هزيمة 67 الشعواء، بتنحّي عبد الناصر وانتحار عبد الحكيم عامر وزير الحربية، وبحراك شعبي أعاد عبد الناصر، وبرفض أحكام لجنة التحقيق المخففة من خلال انتفاضة طلابية أسقطت قرارات اللجنة وفرضت إصدار أحكام بمستوى المسؤولية عن هزيمة نكراء. كان موضوع المراجعات والتجارب السابقة يتركز حول المسؤولية والقصور الذاتي.
بعد حرب السنتين التي قادتها «حماس» على جبهة غزة والضفة الغربية، يُظهر قادة وناطقون إعلاميون مستوى من الاطمئنان والسكينة، ولا يبدو أن لديهم حساسية إزاء الخسائر الفادحة والتدمير والتدخلات التي أعادتنا أكثر من نصف قرن إلى الوراء، ولا بعذابات وآلام الناس. يبدو هؤلاء من خلال مفردات خطابهم وانفعالاتهم ولغة الجسد أنهم غير مبالين ولا مكترثين بالنتائج. غاب الاعتذار تماماً من خطابهم، لم يتحمل أحد مسؤولية أو خطأ أو سوء تقدير، لم يستقل أحد ولم يطالَب أحد بالتحقيق في الكارثة والإجابة عن الأسئلة التي يطرحها كل مواطن في غزة وخارجها. حتى الآن يبدو أن لسان حالهم يقول ليس بالإمكان أفضل مما كان.
تبدو قيادة الحرب والناطقون والمدافعون بمظهر الرضا عن النفس، لا بل إن البعض يعبر عن قناعته بالنصر المبين! ولكن، بعد صمت المَدافع- وهي لم تصمت تماماً-، خرج الناس من حالة الاستنفار والطوارئ التي عاشوها أثناء الحرب لتنفتح جراح الجسد والروح مرة أخرى، بدأ المواطنون فعلاً بحساب الخسارة والربح، الضرورة والعبث، البداية والأفق والمستقبل، الحرية والاستعباد، الكرامة والذل، الحلم والحقيقة.
قيادة حماس والفصائل التي تدور في فلكها، والدعاة المتواجدون على مدار الساعة على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، يقدمون موقفاً ملتبساً يتجاهل الواقع المرير، وذلك بتعويم نتيجة الحرب وإعادة القول بأن إسرائيل لم تحقق أهدافها، وقد تحولت الى دولة منبوذة، وعادت القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمام الدولي، وأن الشعب الفلسطيني يحظى بدعم وتعاطف شعوب العالم. هذا العرض صحيح في بنوده الثلاثة الأخيرة، لكنه للأسف جاء بفعل الكارثة التي صنعتها إسرائيل بالشعب الفلسطيني، وبفعل الوحشية والعجرفة الإسرائيلية التي ازدرت كل المنظومة القانونية والأخلاقية والروحية والإنسانية المتبعة كلياً او جزئياً لدى دول وشعوب العالم، وولدت ردود فعل مناهضة ومعادية لإسرائيل. مدافعون كثر عن مقاومة حماس الإسلامية يعزون نبذ وعزلة إسرائيل لطوفان الأقصى التي استفزت إسرائيل الى أقصى حدود الاستفزاز، ما دفعها إلى صنع محرقة جديدة. إذا كانت قيادة حماس تعرف الرد الإسرائيلي الإبادي ونفذت 7 أكتوبر، فإن الشعب الفلسطيني هو مجرد عنصر استخدامي يتساوى فيه موته مع حياته، يتساوى عيشه بشكل طبيعي مع دخوله في محنة وكارثة، ولا يهم اذا توقفت مدارسه ومستشفياته وانعدم الغذاء والعلاج، لا يهمّ استمرار المجازر والجوع والعطش والرعب، لا يهم تحوّل المدارس والمستشفيات والمخابز والطرق الى أنقاض، لا يهم كل هذا لأنه يجعل إسرائيل دولة منبوذة. منطق غريب وعجيب! هل كان رفض اضطهاد اليهود يحتاج الى هولوكوست؟ وهل التعاطف مع الشعب الفلسطيني يحتاج الى حرب إبادة؟ الإجابة الطبيعية عن ذلك أنه لا أحد عاقل يحترم حقوق الانسان يقبل او يورّط المعتدي بحرب إبادة من أجل دعم حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة المعبَّر عنها في مئات القرارات الدولية. ولا احد يقبل بالهولوكوست لأنها رفعت الاضطهاد عن اليهود.
 إذا عدنا للوراء ودقّقنا في كيفية تعامل حماس مع شعبها في حروب المواجهات مع أحدث جيوش العالم المختلة، بمستوى فلكي بين قوة حماس وقوة إسرائيل والتي كان وقودها البشر وبنيتهم التحتية. اختيار حماس لحرب المواجهة يعني أنه لا يَضيرها الخسائر البشرية ولا عذابات الناس طالما أنها تُلحق الضرر بإسرائيل. حصل ذلك في حروب المواجهات الأربع، وحصل أكثر بكثير في حرب السنتين الإبادية. عدم اكتراث قيادة حماس بالخسائر يفسر لماذا تنعدم حساسيتها إزاء الخسائر البشرية الهائلة، ولماذا لم تتوجه قيادة حماس بخطاباتها لأبناء شعبها المنكوبين. وإذا كان البشر جميعهم أطفالاً وأبرياء ومسنين يعامَلون كورقة استخدامية، فإن ذلك يتنافر مع كل القيم والشرائع الدينية والإنسانية والتحررية والوطنية.
 عندما فاضت خسائر المدنيين عن كل حساب، لماذا لم تهتم قيادة حماس بإنقاذهم عبر سحب الذرائع والانسحاب من حرب الإبادة بضمانات لمصلحتهم؟.
لماذا حظيت قيادة حماس بتأييد الفصائل ونُخب إعلامية وأكاديمية على مدار سنتَي حرب الإبادة، بما في ذلك تأييد قبولها بصك الوصاية والاستسلام – خطة ترامب -؟ إن أي قراءة للبنود الـ 20 من مبادرة ترامب وتطبيق المرحلة الأولى، ليس من الصعب التعرف فيها على صك وصاية واستسلام، حيث أصبحت الاملاءات الخارجية وهي مجموعة لا تنتهي من الشروط التي تُفرض على حماس وفصائلها من جهة وعلى السلطة والمنظمة من جهة أخرى، وليس من الصعب رؤية حجم الموت والدمار وتفكيك المجتمع في قطاع غزة، وبمستوى أقل في الضفة الغربية. كان قرار 242 تعبيراً عن الهزيمة العربية، وكانت خطة ترامب تعبيراً عن هزيمة المقاومة الإسلامية وفصائلها ومحورها. ينص البند 6 والبند 13 من الخطة على نزع سلاح حماس وإزالة أي تهديد لدولة الاحتلال، وتضع الخطة خيارين أمام قيادة وكوادر وعناصر حماس، خيار البقاء على قاعدة تسليم السلاح والكف عن المقاومة، وخيار الانسحاب الآمن الى بلد آخر. ثم يأتي القيادي محمد نزال ليقول إن حماس لن تسلم سلاحها وستلتزم بهدنة طويلة، ثم تتنصل قيادة حماس من هذا الموقف وتؤكد التزامها بالخطة التي وقّعت عليها في شرم الشيخ. ماذا تريد حماس إذاً؟ هل تراهن على بقاء سيطرتها على قطاع غزة ما بعد المرحلة الأولى، بتزكية من قطر وتركيا؛ البلدين اللذين دعما حكم حماس طوال الوقت، أم تراهن قيادة حماس على سياسة الأمر الواقع الذي تصنعه الحركة بعد الانسحاب الإسرائيلي الأول. تقول صحيفة «ديلي تلغراف» إن حماس تساوم على سيطرتها على 2.3 مليون فلسطيني بعد تسليمها ورقة الرهائن. بقي القول إن مشكلة خطاب المقاومة الإسلامية تطال المفاهيم والمصطلحات واحترام العقل.

أحدث الاخبار