
توقّفت المذبحة… لكن ستبدأ الحروب..رامي مهداوي
توقّفت المذبحة، لكنّ الحرب لم تنتهِ.... هذه الجملة الوحيدة التي يتداولها عقلي!!
سكتت المدافع لتبدأ الضوضاء الخفيّة، وانسحب الدخان من السماء ليعود إلى الصدور. انتهى زمن القصف، وبدأ زمن الأسئلة الثقيلة. فما جرى في غزة لم يكن مجرد معركةٍ بين جيشٍ ومقاومة، بل إعادة تشكيلٍ لوعي الشعوب ولخرائط المنطقة برمّتها.
المجازر توقفت ظاهرياً، لكن الحروب المقبلة تتكاثر في الظلّ: حروب النفوذ، والشرعية، والمعنى. الاحتلال الإسرائيلي لم يخرج منتصراً من غزة، لكنه خرج عازماً على إعادة تعريف النصر وفق مقاييسه الخاصة. فهو اليوم يزرع بذور “سلامٍ مفخخ” تحت شعار الإعمار، وينسج إدارة جديدة للقطاع تُبقيه تحت الهيمنة من خلال اقتصاد المساعدات، لا من خلال السلاح. أمّا في الضفة الغربية، فيواصل الاحتلال تمدده الصامت عبر الاستيطان والتهويد وملاحقة الوعي قبل الفعل، محولاً الحياة اليومية إلى شكلٍ متقن من أشكال القمع الطويل الأمد.
هكذا يدير الاحتلال المشهد الفلسطيني: لا انتصار كاملاً، ولا انهيار كاملاً — بل إدارة دائمة للأزمة كي تبقى الأرض رهينة، والشعب متعباً، والفكرة معلّقة بين الرجاء واليأس. لكن الأخطر من استمرار الاحتلال هو تآكل الجبهات الداخلية.
في غزة، ستبدأ المعركة داخل حماس نفسها: بين جناحٍ يرى ضرورة التحول السياسي وإعادة التموضع إقليمياً، وآخر يتمسك بخطاب المقاومة المطلقة كمرجعيةٍ وحيدة للبقاء. إنها ليست خلافات تنظيمية، بل صراعات على هوية المشروع ذاته، وعلى من يملك القرار والشرعية بعد حربٍ استنزفت كل شيء.
وفي المقابل، تقف القيادة الفلسطينية بكل ألوانها أمام استحقاق تاريخي لا يحتمل التأجيل. فالمعادلات القديمة التي حكمت سلوكها السياسي لم تعد قادرة على التعامل مع عالمٍ تغيّر جذرياً. العالم اليوم لا يصغي للشعارات بل للأفعال، ولا يكترث بالخطابات بل بالمشاريع القابلة للحياة. ومن هنا، فإن منظمة التحرير الفلسطينية مطالبة بإعادة صياغة أدواتها الفكرية والسياسية والدبلوماسية لتستعيد مكانتها كممثلٍ وطنيّ فاعل، لا كإدارةٍ بيروقراطية تتلقى المساعدات وتدير الانتظار.
إنّ ما بعد الحرب في غزة يفرض على القيادة الفلسطينية أن تتعامل مع القطاع بعقلية جديدة تتجاوز ثنائية السيطرة أو القطيعة. فغزة ليست عبئاً سياسياً، بل بوابة الشرعية الوطنية ومحرار الإرادة الفلسطينية. وحدها الشراكة الواعية القادرة على إعادة اللحمة بين الضفة وغزة، بين الجغرافيا والمصير. وعليها أن تُثبت — للعالم ولشعبها قبل ذلك — أنها قادرة على التجديد دون أن تُفرّط، وعلى التكيّف دون أن تنكسر، كي تتحول من سلطة إدارة إلى قيادة تملك مشروعاً يعيد للسياسة معناها وللوطن اتجاهه.
أما داخل إسرائيل، فالمشهد لا يقلّ تدهوراً. فالمجتمع الإسرائيلي يعيش أعمق انقساماته منذ قيام الدولة. حكومة نتنياهو في صراعٍ مفتوح مع الجيش، واليمين الديني يبتلع الدولة من الداخل، فيما تتآكل ثقة الإسرائيليين في مؤسساتهم. الحرب الأخيرة لم تُوحّد إسرائيل كما أراد قادتها، بل كشفت حدود قوتها وهشاشة سرديتها الأخلاقية. إسرائيل الخارجة من الحرب أكثر تطرفاً، وأكثر خوفاً، وأقلّ يقيناً بوجودها.
إنّ ما ينتظرنا ليس سلاماً، بل تعدد الحروب وتبدّل وجوهها. حروب إعلامية على الرواية، حروب اقتصادية على الإعمار، حروب اجتماعية على الوعي والهوية. سيحاول الاحتلال خلق “فلسطيني جديد” منزوع الإرادة، يختزل قضيته في البقاء اليومي لا في التحرر، فيما يُختبر الفلسطيني أمام قدرته على تحويل الكارثة إلى وعي، والهزيمة إلى بداية.
لقد توقّفت المذبحة فعلاً، لكنّ ما سيليها أخطر من القصف ذاته. الحرب القادمة ستكون حرب الأفكار والمفاهيم، حرب على من يملك الرواية ومن يكتب التاريخ. فإما أن نبدأ معركتنا الحقيقية — معركة إعادة بناء الذات والعقل الفلسطيني الجمعي — أو نستسلم لتكرار المأساة بأسماءٍ جديدة. التاريخ لا يرحم من يخطئ قراءة لحظاته الفاصلة. ونحن اليوم في لحظةٍ فاصلة حقاً: إما أن نُعيد كتابة فلسطين كما نريدها، أو يكتبها الآخرون كما يشاؤون.