تستحقّ حرب الإبادة على غزّة أن نراها في سياق أوسع من مجرّد "الصراع" التاريخيّ والإقليمي أو الكوني على الموارد وفي السياسة. تستحقّ أن نراها في سياق ما وصلت إليه "المنظومة الدوليّة" التي من المفروض أن ترتّب العلاقات بين الدول والأمم وبين المحاور وبين شمال وجنوب وتنظّم التجارة الدولية والحقوق في البحار والمناطق التي ليست دول ـ أنتاركتيكا مثلًا أو الفضاء ـإلى آخر ما يُمكن أن يُضاف إليها من مسائل. وعندما نقول "المنظومة الدوليّة" يعني تلك القوانين والاتفاقيات والتفاهمات والمواثيق والمعاهدات ومؤسّسات الأمم المتّحدة ومحكمة العدل الدوليّة والمحكمة الجنائيّة الدوليّة وغيرها من مؤسّسات أمميّة أو دوليّة (محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي مثلًا) المُشرفة على تطبيقاتها. لماذا لم تعمل ولم توقف الإبادة ولم تستطع حتّى الآن تطبيق أحكام العدالة الدوليّة على مرتكبي الإبادة والضالعين فيها كمزوّدي أسلحة ودعم لإسرائيل؟ لماذا لم يتمّ تفعيل البند السابع لمجلس الأمن ويدفع "المنظومة" لوقف الإبادة، لتوفير الإغاثة الإنسانية على الأقل؟
هذه الأسئلة ليست قانونية وإن كان لها بُعدها المتّصل بالقانون الدوليّ ودستور مجلس الأمن، بل هي سياسيّة فكريّة فلسفيّة بامتياز تتّصل بما نُسمّيه الحقبة الحاليّة للاجتماع البشريّ. الإجابات تكمن في طبيعة "المنظومة" وعملها ضمن سياق هذه الحقبة وسِماتها. زهي سِمات مختلفة عن الحقبة التي تشكّلت فيها هذه المنظومة. وهي حقبة أواسط القرن الفائت بعيد الحرب العالميّة الثانية. للتذكير، لقد اعتُبر الحرب المذكورة على فظائعها وصولًا إلى التطهير العرقي والإبادة نهاية الحداثة بوصفها دولة قومية تحتكر العنف واستعماله وتحتكر "الحقيقة" وممارساتها.
يومها، اعتُبرت المحرقة والاستبداد كما تجسّد في النُظم التوتاليتاريّة من روسيا السوفييتيّة حتى اليابان القيصريّة مرورًا بالنازيّة والفاشيّة على أنها انتهاء حقبة من الاجتماع البشريّ. أما كل ما أعقب ذلك من إعادة تنظيم الأمم المتحدة ومؤسساتها ووضع المواثيق والقوانين وإقرارها وتوقيع الغالبية الساحقة للدولة عليها وعلى اتفاقيات دوليّة في كل مجال ومجال لا سيّما الاقتصاد ـ كل هذا كان بمثابة دعائم لـ"منظومة" من العلاقات الدوليّة والاجتماع البشريّ بين الدول وفيها ـ منع جرائم حرب مثلًا وتكرار الإبادة. عزّز من عمليّة بناء "المنظومة" على هذا النحو عمل المراكز الأكاديمية والبحثيّة المفكّرين والمنظّرين والفلاسفة والأدباء والمبدعين والفنانين من كل المجالات الذي عملوا على نقد "الحقبة" السابقة. وكان العالم يومها في مسار ما بعد الاستعمار الذي سرّعته الحرب وفظائعها والخسائر التي لحقت بالعالم والشعوب والدول.
عجز هذه المنظومة التي سمّيناها دائما "الشرعيّة الدولية" ومبادئ" القانون الدوليّ" عن منع الإبادة في غزّة مردّه تآكل هذه المنظومة في مستوييْن اثنيْن. الأوّل ـ في مستوى الفكرة في أساسها اتفاقيات دوليّة على الممنوع والمسموح، الثاني ـ في مستوى القدرة "الدوليّة" على التطبيق. في رأينا المتواضع أن هذا التآكل مردّه ظاهرة سياسيّة على مستوى العالم وهي الضعف الشدي حدّ التفكك والتلاشي أحيانا الذي أصاب "الدولة القطريّة" كوحدة سياسيّة دوليّة انبنت المنظومة على أساسها. فقد افترضت المنظومة وجود دول مستقلّة وسياديّة وصاحبة قرار وطني وسياسات ومصالح لا سيّما الإرادة في الامتثال للقانون الدوليّ وأحكامه ولقرارات أمميّة.
ضعف ظاهرة الدولة على كلّ ما تعنيه يشي بأن "أجسام" أخرى اكتسبت قوة. وهذا الشقّ الثاني المرعب للظاهرة وهو أن كيانات ـ بالأساس ـ اقتصادية مختلفة وكارتيلات وأجسام اقتصادية عابرة للحدود لا سيّما شركات وأثرياء يبدو بعضهم أقوى تأثيرا في العالم والسياسات الإقليمية حتّى من دول كانت عُظمى! هذه الأجسام التي أصبحت اللاعب المركزي ـ وإن كان لا يزال لعبها وتأثيرها يحدث بواسطة تنظيمات "المنظومة" نفسها من دول وحكومات واتحادات ومؤسّسات مالية وهيئات أممية ومالية. صحيح أن الرأسمالية كان مؤثّرة في الماضي أيضًا، إلّا أن تأثيرها اليوم ضمن نظام العولمة أكبر بكثير لأن البنية الاقتصادية ـ البناء التحتي ـ يُنتج قوة هائلة في السياسة والفكر السياسي، في إدارة المجتمعات وموديلات تصريف الحياة، أيضا، في المعايير والأحكام لا سيّما الناجع وغير الناجع، النافع اقتصاديًّا وغير النافع وما إلى ذلك من أدوات في "حقيبة" إدارة المجتمعات والعالم. من الملاحظ أن هذه "الأجسام" و"الكيانات" تعمل ليل نها لإطلاق العالم من كوابح و"وثاق" المرحلة الماضية ليس رغبة في الحريّة المُطلقة للناس بل رغبة في إطلاق يد السوق التي يُسيطرون عليها بالكامل. إن هذه السيطرة المُطلقة أو السعي إليها بكل وسيلة هي هي منبع "الشرّ المُطلق" كما رأيناه في غزة منذ سنتين بوجه خاص.
بمعنى أو بآخر فإن مبنى الاقتصاد العالمي الذي اندفع من الرأسماليّة الوطنيّة إلى الرأسماليّة المعولمة بسرعة هو الذي أفرغ "المنظومة" من قوتها المأمولة في فرض معقولية ما على مستوى العالم وشرعيّة متفق عليها. يُمكن لنا أن ندّعي ـ دون الخوض في التفاصيل هنا الآن ـ إن "المنظومة" ولدت مع قصور بنيويّ عندما حلّت نزاعات إقليمية دون مراعاة لأبسط اعتبارات الشرعيّة والعدالة النسبيّة وأنها لم تفعل من بدايتها أي شيء لتطبيق لكثير من قراراتها. والادّعاء صحيح على العموم. ويُمكننا في أن ندّعي في الاتجاه ذاته أن توزيع القوة داخل مجلس الأمن الأممي لم يكن عادلًا لا سيّما منظومة الدول دائمة العضوية وحقّ النقض الفيتو الممنوح لها.
إذا كانت "المنظومة" نشأت من انهيار مفهوم الحداثة على مستوى انتظام الاجتماع البشريّ وآليات تصريف شؤونه، فإن غزّة كتجربة إبادة وكشرّ مُطلق في الممارسة السياسيّة لمركز القوة العالميّة ـ الغرب أساسًا ـ يُشكّل تداعي ما يُسمى حقبة ما بعد الحداثة، أيضًا والمنظومة التي جسّدتها منذ الحرب العالمية الثانية. غزّة باعتبارها حدثًا مصمّمًا على مستوى العالم والفكر السياسيّ والفلسفيّ للاجتماع البشريّ هي نقطة فاصلة أنهت ما بعد الحداثة على كلّ ما تعنيه. في غزّة سقطت "ما بعد" الحداثة وثبت "بُطلانها". وهو سقوط سياسيّ وفكريّ وأخلاقيّ وفلسفيّ وعمليّ عميق ينفذ إلى صميم الاجتماع البشريّ الذي تشكّل كتجربة غربيّة أساسًا نشأت هياكلها على أرض الشقّ التاريخيّ المتمثّل بالمحرقة والتوتاليتارية وفظائعها.
غزّة، التي تمّت محاولة إبادة شعبها وإبادتها كحيّز واسم ومعنى وحاضرة، تجسّد في المشهد المرسوم على أرضها، بداية لحقبة اجتماع بشريّ جديدة ولخطاب سياسيّ وفلسفيّ وأخلاقيّ يجعل من كل ما كان قبله كومة خردة!