القضية الكردية بين سلام غير مكتمل وحرب تلوح في الأفق

قُدِّم التفاهم المبرم في 10 آذار/مارس 2025 بين دمشق وقوات سورية الديمقراطية (قسد) بوصفه إعادة ضبط تاريخية، حيث فيه دمج البُنى العسكرية والمدنية لـ"قسد" في مؤسسات الدولة، وضمانات دستورية لجميع المكوّنات، ووقف شامل لإطلاق النار على مستوى البلاد، وحملة مشتركة ضد بقايا منظومة حكم الأسد. للمرة الأولى منذ سنوات، انتقل الملف الكردي من ارتجال ساحات القتال إلى مسارٍ مؤسسي، وفيه خطوات تعاطٍ جدية من حكومة دمشق. وبعد شهرين، بدت الإشارات الأولى متباينة لكنها ملموسة، وفيها هدوء حذر على معظم الجبهات؛ إعادة إدماجٍ تدريجي لحيّي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب؛ ولجانٌ مشتركة ترسم خيارات دمج القيادة والإدارة المحلية.

لكن اشتباكات شهدها سبتمبر الجاري حول دير حافر وسدّ تشرين هزّت هذا المسار، وشملت عمليات تبادُل الصواريخ والمسيّرات، وسقوط ضحايا مدنيين، وتراشق الاتهامات أوقف المحادثات رفيعة المستوى في اللحظة التي كانت فيها اللجان الفنية تحتاج إلى غطاء سياسي للانتقال من التصوّرات إلى الأوامر. والسؤال اليوم ليس عمّا إذا كان إطار آذار مُبالغًا في الوعود، بل عمّا إذا كان بالإمكان إنقاذه من مصير هدنةٍ سورية أخرى تموت ببطء بسبب التأجيل.

لا شيء يُجسّد الوعد والخطر معًا مثل سدّ تشرين، إذ إنّه من حيث المبدأ، كان يُفترض أن يكون تسليمه لإدارةٍ سيادية واحدة خطوةً سريعة، يعمل على تأمين شريانَ حياةٍ للكهرباء والمياه لملايين الناس، مُحصّنًا ضدّ فيتوات الفصائل. لكنه تحوّل إلى نزاعٍ بالوكالة حول الصلاحيات الأمنية والسيطرة الإدارية، حيث تصرّ دمشق على أنّ السدّ مرفقٌ وطني يتبع لوزارة الطاقة مع ضمان وصول مهندسيها؛ فيما يريد قادة "قسد" وجودًا أمنيًا في الموقع واستمراريةً للكوادر القائمة تحت مظلتهم الإدارية، محذّرين من أنّ تسليمًا على بياض سيُحكم الطوق على عين العرب/كوباني. وكلما طال التعثّر، ازداد تجمّد بقية الملف، إذ إن تبادل الموقوفين يتباطأ، والحوادث الأمنية تتحوّل إلى سرديات خيانة، ولجان الدمج تدخل حالة بطالةٍ مقنّعة. فعليًا، قضية تشرين ليست عن العنفات بقدر ما هي عن ترتيب الخطوات والثقة. فإذا عجزت دمشق عن إثبات أنّ السيطرة السيادية لن تتحوّل إلى إقصاءٍ عقابي، وعجزت "قسد" عن إظهار أنّ الضمانات الأمنية ليست تسميةً أخرى لحكمٍ موازٍ، تهترئ بنية اتفاق آذار برمّتها.

الضمانات الدستورية وصراع المركزية

أصعب المعضلات اللاحقة لاتفاق قسد–دمشق سياسية لا تقنية، على اعتبار أن نصّ آذار تحدّث عن حقوق دستورية ووحدة؛ وروحه ألمحت إلى إعادة كتابة علاقة المركز بالأطراف. بالنسبة إلى "قسد" وإدارتها المدنية، اللامركزية الإدارية هي الحدّ الأدنى، ووسيلةٌ للحفاظ على مكتسبات تقديم الخدمات والحقوق الثقافية والتمثيل المحلي الذي تَحقّق إبّان حرب داعش. أما بالنسبة لدمشق، فبحسب تصريحات رئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع، فإن كل ما يفوح برائحة الفيدرالية خطٌ أحمر؛ وحتى صيغ اللامركزية الأخفّ لا تُقبل إلا بشرط ألا تُضعف القيادة الاستراتيجية أو السيطرة على الموارد أو رمز الدولة الواحدة.

داخليًا، حاول حوار كردي داخلي أواخر أبريل في القامشلي توحيد الموقف التفاوضي، بما يشمل حماية اللغة والتعليم والمجالس المحلية؛ فجاء ردّ الرئاسة من دمشق صريحًا: لا للقوالب الفيدرالية ولا للممارسات الانفصالية. كان ذلك أول تصعيدٍ علني بعد الاتفاق، وحدّد الهندسة السياسية بوضوح؛ وستكون اللامركزية ساحة الدستور التي إمّا تنضج فيها صيغةٌ قابلة لتقاسم السلطة، أو ينهار الاتفاق تحت قراءاتٍ قصوى من الطرفين. ثم جاء مؤتمر الحسكة في أغسطس الفائت، تحت عنوان "وحدة الموقف لمكوّنات شمال شرقي سورية"، ليكون نقطة تحوّل في العلاقات بين "قسد" والإدارة الجديدة في دمشق. بالنسبة لإدارة دمشق، كانت ترى فيه محاولة لاستجلاب تدخلات أجنبية وإعادة فرض العقوبات بما تتحمل "قسد" تبعاته القانونية والسياسية والتاريخية؛ وتؤكد أن المؤتمر لا يمثل إطارًا وطنيًا جامعًا بل تحالفًا هشًا لأطراف متضررة من "انتصار الشعب السوري" وسقوط العهد البائد، كما تعتبره تهرّبًا من استحقاقات وقف إطلاق النار في مارس 2025 ودمج المؤسسات واستمرارًا في خرق الاتفاق، وغطاءً لسياسات "تغيير ديمغرافي ممنهج" ضد العرب السوريين تُنسب لتيارات كردية متطرفة، مع التشديد على أن شكل الدولة يُحسم بدستورٍ دائم يُقرّ عبر استفتاءٍ شعبي يضمن مساواة جميع المواطنين، لا عبر تفاهماتٍ فئوية.

على العموم، "قسد" ليست كتلةً صمّاء واحدة ومن لون واحد، ولا يمكن اختزال موقفها. إذ فيها تشكيلاتٌ عربية، وقادةٌ محليون أكراد، وكوادر بمديات متفاوتة من الارتباط بحزب العمال الكردستاني (PKK) طالما شدّوا في اتجاهات مختلفة. فدعوةُ عبد الله أوجلان في فبراير الفائت إلى حلّ الحزب ونزع السلاح فتحت نافذةً خطابية، لكنها لم تُلغِ الحقائق التنظيمية الصلبة على الأرض. بعض العناصر المحسوبة على العمّال الكردستاني ترى مسار آذار محوًا بطيئًا لنفوذها، ولديها حوافز للتأخير والمناورة والإبقاء على خطوط قيادةٍ مستقلة، وهو ما يظهر في استمرار حفر الأنفاق، وتعبئة الشبيبة الثورية، ومقاومة إعادة الانتشار السريعة حول مواقع حساسة مثل تشرين.

في المقابل، يفضّل كثير من الوحدات العربية وشريحة معتبرة من الأكراد إنجاح الصفقة مع دمشق بما يضمن مخاطرة أقل مع تركيا، التي تلوّح دائمًا بعمل عسكري على غرار عمليات "نبع السلام" و"درع الفرات" و"غصن الزيتون"، وطريقًا إلى وضعٍ معترف به داخل مؤسسات الدولة، وحمايةً لمجتمعاتٍ دفعت أثمان الحرب على مدار 14 عامًا. ويصرّ هؤلاء على محدّدين: عدم تهميش المكوّنات العربية في الترتيبات الأمنية الجديدة، وعدم العودة إلى نموذج الهيمنة الأمنية المركزية ما قبل 2011. وهي قدرة قيادة "قسد" على فرض الانضباط نحو الأسفل والتفاوض على الضمانات نحو الأعلى ستحدّد وتيرة أيّ دمج.

المدنية والشرعية والعسكرة

يؤكد كلٌّ من دمشق و"قسد" أن الشارع يريد الاستقرار؛ لكن المجتمع المدني، ووجهاء العشائر، والنقابيون المستقلون، ومنظمات النساء، وإصلاحيّو البلديات، يبقون إلى حدٍّ كبير خارج المشهد. تقارير التجنيد القسري (بما في ذلك قُصَّر)، والاعتقال التعسفي، والرسوم الجائرة في بعض المناطق، تغذّي سردية أن النخب تفاوض على الناس لا معهم، ومن الطرفين. ومع كل أسبوعٍ يمرّ من دون مشاركةٍ مجتمعية ذات مصداقية، تتآكل الرخصة الاجتماعية التي يحتاجها مسار اتفاق آذار، الذي ضمن تسوية قابلة للحياة وتتطلّب إشرافًا عامًا على الشرطة، وتوزيعًا شفافًا لإيرادات النفط والقمح، وآلياتٍ مستقلة لرفع المظالم بعيدًا عن هيمنة أي جهازٍ أمني تابع لأي من الجهتين. وإلا فإن الغضب الصامت في الجزيرة سيبحث عن مخارج أخرى، وسيجد المخرّبون مادّةً للتجنيد والحشد من الطرف الآخر.

موقف تركيا هنا محوري ومفارِق في آن، على اعتبار أن أنقرة رحّبت بالتهدئة لكنها تربط قبولها بإزالة نفوذ العمّال الكردستاني من شمال سورية وبأمن حدودي قابل للتحقق. وقد لوّحت "قسد" بأشكال تعاونٍ جديدة مع دمشق تصل إلى التدريب والتنسيق، حتى فيما تواصل مسيّراتها ضرب ما تعتبره نقاطًا معادية في المناطق الشرقية. يمكن القول إنه إذا استنزف الدمجُ النفَس السوري لدى PKK، يمكن لتركيا التعايش مع قوى من أصلٍ "قسد" تُعاد تسميتها داخل البنى السورية، شرط أن تعكس القيادة والسيطرة والجغرافيا ذلك الفصل.

في المقابل، يلوح تهديدٌ بعمليةٍ تركية جديدة إن تعطّل المسار أو بدا أنّ نواة الـYPG تترسّخ. هذا الشبح يضيق هامش المناورة، ويضغط على "قسد" لتسريع التنازلات، ويُغري الإدارة الجديدة في دمشق بالتقاط المكاسب من دون دفع ثمن الإدماج السياسي والعسكري؛ كما يعقّد حسابات الغرب، ولا سيما مع تقليص الولايات المتحدة بصمتٍ حجم وجودها مع رغبتها في منع عودة داعش وتفادي حرب تركية–كردية مزعزِعة للاستقرار، كما جاء في تصريحات الرئيس الشرع مؤخرًا حول عمليات عسكرية تركية وضوء أخضر من سورية للقوات التركية بتنفيذ عمليات من أراضيها ضد الأكراد.

مأزق واشنطن كحليف غامض

على مدى 14 عامًا على الأقل، عاملت السياسات الغربية، وخاصة الأميركية، "قسد" بوصفها حليفًا تكتيكيًا ضد داعش من جهة، وضد النظام السوري من جهة، وضد الأتراك من جهة أخرى؛ ولم تكن رهانًا استراتيجيًا على دخولها في تشكيلة نظام سورية ما بعد الأسد. المقاربة الراهنة تحاول التوفيق بين أضلاعٍ ثلاثة: الإبقاء على تعاونٍ مضاد للإرهاب مع بقايا "قسد" التقليدية؛ واختبار تفاهمٍ أمني مع دمشق يقيّد إيران وأي حليف لا ترغب به دمشق ويُثبّت الشمال الشرقي؛ وردع تجاوزٍ تركي بالقدر الكافي لتجنّب صراعٍ أوسع، لا سيما وأن تل أبيب لها ارتباط بشكل أو بآخر مع "قسد" وفق معطيات العلاقات مع الأقليات العرقية والدينية في سورية.

عمليًا، هذا التثليث مهدّد بأن لا يُرضي أحدًا في البلاد؛ فإذا بدا أن واشنطن تخلّت تمامًا عن تطلعات الأكراد، فقدت شريكًا مُجرّبًا وتنازلت عن أوراق نفوذٍ في حقول الطاقة وسجون مقاتلي داعش. وإذا بالغت في خطاب الحكم الذاتي الكردي، زادت حساسية أنقرة ومنحت دمشق ذريعة لإغلاق باب اللامركزية.

ومع ذلك، ما يزال هناك هامش ضيّق قابل للعمل، من خلال ربط الحوافز الدبلوماسية والاقتصادية لدمشق بخطواتٍ قابلةٍ للتحقق عبر تفعيل جداول زمنيةٍ مضبوطة للدمج، تدقيقٍ غير مسيّس في كوادر "قسد"، وكبح التجنيد التعسفي، وإشراك فاعلين محليين مستقلين في الحوكمة. وبالتوازي، الإبقاء على دعمٍ مُعايَرٍ لأمن المجتمعات في الشمال الشرقي يركّز على احتجاز داعش، ونزع التطرف، والشرطة المدنية، لا على الأسلحة الثقيلة.

السيناريوهات والحرب ومركز الثقل

أمام الأطراف ثلاثة مسارات مرتّبة بوضوح:

- هبوط بطيء يقوم على خطوات عملية قابلة للتحقّق؛ تسليم منظّم لسدّ تشرين ببروتوكول أمني مشترك، تبادل شفاف للموقوفين بآجال ملزمة، إغلاق موثّق لشبكات الأنفاق بإشراف طرف ثالث، وتجريب وحدات مشتركة؛ ويترافق مع تكريس لامركزية إدارية؛ وهو مسار فوضوي لكنه قابل للصمود متى اقترن بتنفيذٍ محليّ مرئي.

- دوّامة تصعيد قد تشعلها حادثة واحدة، فتتحرّك أنقرة، وتقتنص دمشق مساحات تماسّ تحت عنوان "استعادة السيادة"، وتتصدّع "قسد"، ويستغلّ داعش الفجوات، فيعود اقتصاد الحرب إلى دورته المعهودة.

- جمود مُدار لا تنهار فيه المحادثات ولا تتقدّم استراتيجيًا: تحتفظ "قسد" بأمر واقعها، وتدير دمشق ترتيبات متفرّقة، وتفرض تركيا خطوطها بضربات معايرة، فيما يكتفي الغرب بالاحتواء، فتترسّخ حالة اللا-حرب/اللا-سلم بكلفة اجتماعية مرتفعة ومن دون مسار إلى الشرعية.

وفي جميع الحالات يبقى مركز الثقل هو بناء الثقة عبر تنفيذٍ محليٍّ مُراقَب؛ وهو ما تعثّر تاريخيًا كلّما غاب الضامن والرقابة المجتمعية.

لتحويل الممرّ الضيّق للمفاوضات إلى طريق سالك، على دمشق أن تتعامل مع الملف الكردي بوصفه اختبار دولة لا تنازلاً ظرفيًا، عبر ورقة بيضاء علنية تُحدِّد جداول الدمج ومراتبه ومواقعه، وتضمن للمُدمَجين مزايا ومعاشات وحمايات قانونية غير تمييزية، مع تقنينٍ صريحٍ ونافذٍ للامركزية الإدارية في النص والتطبيق، ورقابةٍ مستقلة على حوكمة موارد الشمال الشرقي. أما "قسد"، فعليها أن تُنهي فورًا الممارسات النازفة للشرعية، من تجنيدٍ طفولي وتعبئةٍ قسرية وتعسّفٍ أمني، وضبط جناحها العسكري ومنعه من تصعيد أعلى ضد قوات الجيش السوري الجديد، وأن تُوحِّد القيادة وتتعهد علنًا بسلسلة قيادة واحدة فور بلوغ معايير الدمج، مع توسيع الوفد ليشمل شخصيات عربية وسريانية وكردية مستقلة تحظى بثقةٍ مجتمعية.

ويمكن لتركيا أن ترفع احتمال الهبوط الناعم نحو حرب مع "قسد" بمقايضة ضبط النفس بمسارٍ مُتحقَّق لإخراج كوادر غير سورية من حزب العمال الكردستاني داخل سورية عبر انسحابٍ مؤقّت مُراقَب زمنيًا، وآلية مراقبة حدودٍ مشتركة مع دمشق وبمشاركة طرفٍ ثالث.

إن أي صفقة أمنية بلا شرعية مجتمعية لا تدوم؛ وتزداد الحاجة إلى هذا التنفيذ المرئي والملموس، لا سيّما مع المستجدات الميدانية اليوم، الاثنين 22 سبتمبر الجاري، حيث سُجِّلت اشتباكات جديدة بين الجيش السوري و"قسد" على محور السعيدين قرب سدّ تشرين في ريف حلب الشرقي، وتعرّضت قرى السعيدين وجبل القشلة والنعيمية لقصف هاون، بعد يومين فقط من اشتباكاتٍ عنيفة عند دير حافر شملت مسيّرات وأسلحة ثقيلة، فيما أغلق الأمن العام دوّار الليرمون في حلب عقب هجومٍ استهدف نقطةً للجيش وسيارةً عسكرية في محيطها.

هذه سلسلة حوادث تُكرِّس نمط القرصة والقرصة المقابلة على جبهة الفرات، وتُهدِّد بإفشال المسار التفاوضي ما لم تُفكَّ فورًا عقدةُ سدّ تشرين، ويُستكمل تبادل الموقوفين، وتُجرَّب وحداتٌ مختلطة تحت قواعد شفافة ورقابة مستقلة؛ إذ بدون ذلك لن يكون الحادث التالي مجرّد مُجمِّدٍ للمحادثات، بل نقطة انعطاف تُعيد رسم الخريطة وميزان القوى، ويدفع ثمنها المدنيون الذين طال انتظارهم لسلامٍ يُؤجَّل كل مرة.

أحدث الاخبار