“باسم خندقجي: الكاتب الذي هزم السجنبالحبر” بقلم : د. منى أبو حمدية أكاديمية و باحثة

من الزنزانة إلى فضاء الرواية العربية… حكاية الحرية التي كتبت نفسها  بالحروف لا بالرصاص

إلى الأسرى الذين يكتبون بدم الصبر وحبر الإرادة

إلى أولئك الذين لم ينكسروا رغم الحديد، ولم يصمتوا رغم العزلة،

إلى الأسرى الصامدين في وجه العدم، الذين جعلوا من الزنزانة مكتبةً، ومنالجدار نافذةً على الكون، ومن الورق جسرا بين المعاناة والأمل.

إليكم — أنتم الكتّاب الذين لا يوقّع اسمكم على الغلاف بل على جدارالسجن — نهدي هذا المقال، شهادةَ وفاءٍ لكم وللكلمة التي لا تموت.

أنتم أمراء الظلال الذين حوّلوا القيد إلى وعي، والغياب إلى حضور،

وأنتم الذين كتبتم ببطءٍ نبيل، كمن يحفر في الصخر ليزرع شجرة.

في زمنٍ أراد الاحتلال فيه أن يُطفئ الصوت الفلسطيني، خرج صوتكم منقلب الزنازين ليعلن أن الفكر لا يُؤسَر، وأن الخيال لا يُقيد.

لقد صنعتم من الأدب جبهةً أخرى للمقاومة، وعلّمتم العالم أن الحرف يمكنأن يكون أشرف من الرصاصة حين يكتب وجعا وكرامة وحقا.

ومن بين هؤلاء الذين جعلوا من السجن منبرا للحياة، يسطع اسمٌ يتجاوزالحكاية الفردية ليصبح أسطورة أدبية وإنسانية — إنه الأسير المحرر باسمخندقجي، الذي خرج من بين الجدران حاملاً ذاكرةً من نارٍ وحبر، وحكايةً لاتُروى إلا بالدهشة والاحترام.

1. ميلاد الحكاية في العتمة: حين تكتب الروح لتبقى

في الزنزانة، حيث لا مكان إلا للجدار، وللصمت الذي يزاحم أنفاسك، تتكثفالذاكرة حتى تصير كائنًا حيًّا يرافقك في كل التفاتة.

هناك، في المساحة الضيقة التي لا يتجاوز سقفها طول قامة الإنسان، تَخلُق الكلمة فضاءها الخاص. تتسلل الحروف بين الحديد، وتخترق جدارالعزلة كما تخترق شمس الصباح ثقوب القفل.

في تلك العتمة، أدرك باسم خندقجي أن الحكاية لا تولد في الضوء، بل فيأحلك اللحظات. فالنور الحقيقي ليس ما يُرى بالعين، بل ما يُكتَب بالقلب.

وكتب لأن الكتابة بالنسبة له ليست ترفاً ثقافيا، بل فعل خلاص، ووسيلة لإثباتالوجود في وجه المحو.

كان يدرك أن من يُسلب حريته الجسدية، لا يزال قادرًا على ممارسة حريةالفكر، وأن القلم في يد الأسير لا يقل خطراً عن البندقية في يد المقاتل.

لقد حوّل باسم السجن إلى معمل روحي، تُصهر فيه الأفكار كما يُصهرالحديد.

وكل جملة كتبها كانت مقاومة صامتة، وكل حرف كان طلقة في وجه السجان، لا تُسيل الدم، بل تُسيل الوعي.

وهكذا وُلد الأدب في العتمة، لا كترفٍ جمالي، بل كإعلان عن أن الحرية تبدأمن الكلمة الأولى التي تُكتب ضد الظلم.

2. وصيّة الأب: حين تتحوّل الكتابة إلى قدرٍ مقدّس

في لحظةٍ من لحظات الفقد، حين انطفأ صوت الأب وبقي صدى وصيته، تحوّلت الكلمة عند باسم من خيارٍ إلى قدر.

قال له والده وهو بين الحياة والرحيل:“اكتب، حتى لو تحرّرت… " فالكتابة وجه آخر للحرية، بل هيحريته الأسمى.

كانت تلك الوصية أشبه بعهدٍ أبديّ، حملها باسم في قلبه كما يحمل المؤمن نذره

ومنذ تلك اللحظة، لم تعد الكتابة وسيلة لتزجية الوقت، بل واجبا وجوديا يبرّ بهوعدا، ويحفظ به إرثاً روحيا لا يُقاس بالمادّة.

كتب خندقجي كما يُصلّي، بإيمانٍ صبورٍ وعزيمةٍ منسكبة على الورق.

لم يكن يكتب لينجو من السجن فحسب، بل ليمنح لوالده حياةً أخرى في كلنصّ، وليجعل من كل صفحة شمعةً تُضيء عتمة الغياب.

تحوّل القلم في يده إلى وسيلة تواصل مع الأب الراحل، وإلى حبلٍ يربطهبالوطن، وبالإنسان الذي أراد له أن يكون شاهدا على زمنٍ يُمحى فيهالوعي كما تُمحى الوجوه.

وهكذا، كل ما كتبه باسم خندقجي لم يكن نتاج موهبة فحسب، بل وفاءلوصية وإصرارا على أن الكلمة يمكن أن تهزم الموت.

لقد كتب ليُبقي الأب حيّا في سطور الرواية، وليقول للعالم إن أبناءالشهداء والأسرى لا يرثون الحزن، بل يرثون القدرة على تحويل الألم إلىجمالٍ خالد

3. الحبر المهرَّب: الرواية كفعل مقاومة ونضال مستمر

حين تُمنع الحروف من المرور، وتُفتَّش الأوراق كما تُفتَّش الأرواح، يصبح تهريب الكلمة عملاً بطوليّا يشبه تهريب الوطن نفسه من بين أيديالغياب.

هكذا كتب باسم خندقجي، وهكذا خرجت رواياته إلى النور.

لم تخرج عبر بوابات السجن، بل عبر دهاليز الصبر، مسافرةً من يدٍ إلى يد، ومن ورقةٍ إلى ورقة، حتى بلغت فضاء العالم العربي.

كل جملةٍ هُرّبت كانت قصاصة حرية، وكل فقرةٍ وصلت إلى القارئ كانت انتصارا على الحارس والباب الحديدي والرقابة العمياء.

لقد صنع خندقجي من الكتابة سلاحا صامتا، ومن الحبر خندقاً يُقاتل فيهبوعيٍ مثقفٍ وحسٍّ جماليٍّ عميق.فبينما يظنّ السجّان أنه حاصر الجسد، لم يدرك أنّ اللغة لا تُسجن، وأنالخيال لا يعترف بجدرانٍ أو حدود.

روايته "قناع بلون السماء" والتي سبق انا قدمت قراءة لها موثقة عبر بعضالفضائيات والمواقع الالكترونية لم تكن عملًا أدبيّا فحسب، بل صرخة فكريةوجمالية تقول إن الإبداع يمكن أن يولد في أقسى ظروف القهر.

لقد تجاوزت تلك الرواية جدران السجن لتصل إلى منصّة جائزة البوكرالعربية، فكانت لحظة انتصارٍ رمزيةٍ لكلّ الأسرى الذين يكتبون ولا يُسمَعصوتهم، ولكلّ الكلمات التي تنتظر أن تُقرأ لتكتسب حريتها.

وهكذا تحوّل الحبر عند خندقجي من مادّة كتابة إلى موقفٍ فلسفيٍّ ومشروعوعيٍ مقاوم.

إنه لا يكتب ليروي قصةً وحسب، بل ليعيد تعريف معنى المقاومة: مقاومةُ النسيان، ومقاومةُ السقوط في العدم.

فالحكاية عنده ليست وسيلة للهروب من الواقع، بل وسيلةٌ لاختراقه، وتحويلالألم إلى لغةٍ تليق بالإنسان الذي لا يُقهر.

4. الحرية المؤجّلة: من السجن إلى المنفى

في صباحٍ يشبه الحلم، خرج باسم خندقجي من سجنه بعد واحدٍ وعشرينعاما من القيد.

خرج جسدا، لكنه ترك جزءاً من روحه معلقا هناك، في الزنزانة التي صارتشاهدةً على مخاض كلماته.

تحرّر في صفقة التبادل الأخيرة لعام اكتوبر ٢٠٢٥،  لكن حريته جاءتمثقوبة بالمنفى؛ إذ لم يُسمح له بالعودة إلى نابلس، بل أُبعد إلى مصر.

في القاهرة، التقى بنفسه كما لم يعرفها من قبل

رأى رواياته مطبوعةً للمرة الأولى، تلك التي كتبها بين الجدار والفراغ، وهرّبها كما تُهرَّب الأنفاس.

كان اللقاء بين الكاتب ونصّه يشبه لقاء الأم بولدها بعد فراقٍ طويل، فارتجفقلبه بين الدهشة والحنين، بين الفخر والوجع.

لم تكن الحرية كاملة، لكنها كانت نافذة كافية ليتنفس الأدب خارج السور.

لقد تحرّر خندقجي بالمعنى الوجودي قبل أن يتحرّر بالمعنى المادي؛ فالرجلالذي كتب عن الحرية وهو في السجن، لم يكن ينتظر الباب المفتوح، بل كان يفتح أبوابه بالحبر.

ضّخرج وفي يده ذاكرةٌ مكتوبة، وفي قلبه وطنٌ لا يشيخ، وفي عينيه حلمٌ مؤجّللوطنٍ يليق بالأحياء الذين كتبوا كي لا يُنسى الشهداء.

وفي الختام؛ الحرية تبدأ من الحرف الأخير

حين نقرأ سيرة باسم خندقجي، لا نقرأ قصة أسيرٍ تحرّر، بل حكاية وعيٍ تحرّر من حدود الجسد.

لقد علّمنا أن المقاومة ليست مجرّد فعلٍ مسلّح، بل أيضًا فعلُ كتابةٍ، وفعلُ إصرارٍ على الحياة.

في زمنٍ ينهزم فيه الكثيرون أمام الخوف، انتصر باسم على سجّانه بالكلمة، وصاغ من وجعه نظريةً في الصبر والجمال والوعي.

إن تجربة باسم هي دعوةٌ مفتوحة لكل الأسرى الذين ما زالوا في الظل:

أن يؤمنوا أن جدران السجن ليست نهاية الطريق، بل بدايته.

أن يكتبوا، ويبدعوا، ويحوّلوا الزنزانة إلى فضاءٍ من فكرٍ وأملٍ ومقاومة.

فالحرية لا تُمنح، بل تُصنع في أعماق الروح، وهناك، في ذلك العمق، لاسلطان لسجّانٍ ولا لاحتلال.

وإلى أولئك الذين لم تفتح لهم الصفقة باب الخروج بعد، نقول:

إن الزمن الذي يُؤجَّل لا يُلغى، وإن الحلم الذي ينتظر لا يموت.

ستخرجون ذات صباحٍ كما خرج باسم، تحملون كتبكم وأفكاركم، وتجدونالعالم قد عرف أسماءكم قبل أن يراكم.

ستجدون أبناءكم وإخوانكم  يقرؤونكم، والناس يتناقلون كلماتكم، والعالميُنصت لما كتبتم في صمت الحديد.

فأنتم الأبطال و الكتّاب الحقيقيون للتاريخ، والحرية ليست موعدا علىالورق، بل حالةٌ من الإيمان بأن الحرف يمكن أن يفتح القفل.

وباسم خندقجي لم يفتح بابا لنفسه فحسب، بل فتح للأدب الفلسطيني باباجديدا نحو الخلود.

فليكتب الأسرى، إذ لا شيء يخلّد الإنسان في كما تخلّده كلماته،

ولا شيء يهزم الموت كما تهزمه رواية تُكتب في عتمةٍ وتصل إلى ضوء البوكرالعالمي.



 

أحدث الاخبار