كما هو الحال مع اختراعات الإنسان من قبل، ينطوي الذكاء الاصطناعيّ على إمكانات كبرى مهولة ومخاطر مقلقة، نِعَم ونِقم. فقد شكّلت برمجته نقلة نوعيّة أخرى في عصر ما بعد الحداثة، الذي تَسِمُه شبكة الإنترنت والتكنولوجيا ما بعد المتطورة. فهو يوفّر إمكانيّات غير مسبوقة في البحث، ومعالجة المعطيات، وتنظيمها، وصوغها، ويُوفّر على الإنسان وقتًا وجهدًا ومالًا وقوى بشريّة عاملة، ويُقرّبه من نتائج أفضل في وقت قياسيّ. ونظرًا لإمكانات الذكاء الاصطناعيّ الكامنة والمهولة، تُبذل مساعٍ لاستدخاله واستثماره في شتّى المجالات: من البحث والإدارة، إلى السياحة والعمل، والمراقبة والتحكّم، والقمع الرقميّ، وصولًا إلى منظومات الحرب. كما يُسجَّل إقبالٌ متزايد على تعلّم برمجة واستخدام نُظُم الذكاء الاصطناعي وخفاياه والاستفادة منها.
غير أن الوجه الآخر لهذا الإنجاز لا يقلّ دراماتيكيّة؛ إذ تُرافقه مساوئ عدّة، من بينها عدم الدقّة، والاختلاقات، والاختراقات، وانحيازات البرمجة والتمثيل عرقيّا ولغويًّا وسياسيًّا وقيميًّا، وتوظيفها في آليات الرقابة والتحكّم، وعسكرة الذكاء الاصطناعيّ كأكثرها خطورة، إذ يُسخَّر اليوم لتطوير أدوات قتال ذكيّة ولاستهداف الآدميين، وغزّة النموذج، والتزييف، والانتحال، كما لم يشهده التاريخ من قبل.
لكنّني أودّ هنا التوقّف عند ظاهرة مقلقة تمسّ جوهر وتعريف الإبداع الإنسانيّ: الكتابة حين تفقد أصالتها وتتحوّل إلى محاكاة زائفة ينسبُها البشر زورًا وبهتانًا إلى أنفسهم. سأُقارب المسألة باعتبار الفعل الكتابيّ سيرورةً معقّدةً تتداخلُ فيها عناصر وأبعاد متعدّدة. أعالجها هنا من ثلاث زوايا نظر تحليليّة مُدمجة: الأولى هي السيرورات، باعتبارها سلسلة من الخطوات والإجراءات والعمليّات المنظّمة الموجَّهة نحو هدف معيّن؛ والثانية هي الصيرورات، بوصفها تحوّلاتٍ نوعيّةً وتراكميّةً تُعبّر عن النموّ باتجاه التكوين المنشود؛ أمّا الزاوية الثالثة فهي المخرجات المنتَجة، بوصفها النتائجَ النهائيّةَ الملموسةَ و/أو القابلة للتقييم، التي تعكس فعاليّة تلك السيرورات والصيرورات، وتمثَّل هنا في النصوص المنتَجة.
الكتابة، كما نعرفها، لا تُختزل إلى تجميعاتٍ معلوماتيّة أو حذلقاتٍ وتنميقات لغويّة. بل هي فعلٌ معرفيّ مركّب يتطلّب مَلَكَاتٍ أصيلةً على التفكير والتعبير، وموهبة إذا كان الحديث عن الأدب شعرًا أو نثرًا، ومراكمة معرفيّة، ومعرفة لغويّة غنيّة وعميقة، حَرفيّة وحِرفيّة ومجازيّة ودلاليّة، وإتقانًا للنّحو والصّرف، والبلاغة بمقدار يُراعي نوعَ الكتابة. الكتابة نتاج قراءة واسعة، واطّلاع متراكم، بحسب مجال الاختصاص أو عامّة، ودُربة طويلة - أخذتُ مفردة دُربة من قراءتي لابن خلدون - وتطوير ذاتيّ متواصل. حتى إن وُجدت الملَكَة أو الموهبة، فلا غنى عن هذه السيرورات والصيرورات المعرفيّة الطويلة.
نعم، للذكاء الاصطناعيّ أدوات وقدرات وبرمجة خارقة لتسهيل هذه السيرورات والصيرورات، وتقصير مدّة التعلّم لأجيال تنشأ في بيئة رقميّة متسارعة ومتصاعدة، تبني ذاتها في قلب الزمن التكنولوجيّ، ولأجيال متقدّمة تواكب الرّكْب وتنخرط في العصر الرقميّ. لكنّه، برأينا، لا يُمكن أن يكون بديلًا عن تلك العمليّات التكوينيّة الجذريّة المتجذّرة. ولذا، فإن بروز "كُتّاب" و"كاتبات" و"باحثين" و"باحثات"، فجأة، كما الفطر بعد الوَسْم (المطر الأول)، بقدرة لغويّة تفجّرت، وأفكار أصيلة تفتّقت، وتراكيب لغويّة انبجست، وبغوص في أدبيّات مهنيّة لم يقرأوها ويقرأنها يومًا، بل وباشتباك معها، وكأنّما استيقظوا واستيقظن على عتبة النضج المعرفيّ بين ليلة وفجرها، بلا مقدمات، يطرح هذا علامات استفهام جدّية. فكيف لشخص لم يرتد أو ترتد المكتبات، الورقيّة و/أو الرقميّة، العامّة و/أو الخاصّة، ولا راكم أو راكمت القراءات، ولا أعمل وأعملت التفكّر، أن ينتج وتنتج فجأة نصوصًا ناضجة مُحْكَمَةَ المبنى والفحوى، والفكرة والصوغ؟!
يكمن موطن الخطر هنا في أن ينسب أحدهم إلى نفسه أو تنسب إحداهن إلى نفسها نصوصًا مُنتَجة كليًّا أو جزئيًّا بالذكاء الاصطناعيّ، نصوصًا اصطناعيّة، بوصفها إنتاجًا أصيلًا ذاتيًّا. في حالات أخرى يتجاوز الخطر إلى مناطق رماديّة، ويخلق إشكالات أخلاقيّة ومعرفيّة وقيميّة وثقافيّة واجتماعيّة أخرى.
بيد أنّ مثل هذه الادّعاءات، المعلنة أو المكتومة، لا تنطلي على من بَنَوْا وبنيْنَ أنفسهم وأنفسهنّ بأنفسهنّ، ممن حفروا وحفرن في الصخر، وانكفأوا وانكفأن على قراءة المتون الكلاسيكيّة والحديثة، وانشغلوا وانشغلن بالمعرفة والفكر، واشتغلوا واشتغلن على لغاتهم ولغاتهنّ، واغترَفوا واغترفنَ من بحور مخزونهم ومخزونهنّ المتراكم، ومن التوليد الذاتيّ الخلّاق، فانغزلت هذه المكوّنات بصيروراتهم وصيروراتهنّ، بشخصيّاتهم وشخصيّاتهنّ وهويّاتهم وهويّاتهنّ وذواتهم وذواتهنّ الكاتبة.
الذات الكاتبة تتشكّل عبر الزمن بالأسلوب، والفكر، واللّغة، والتناظر الداخليّ، والنبرة، والتناصّ الذي يجد طريقه إلى نصوصها المكتوبة، ولغتها المنطوقة، على نحو عضويّ. هذه الذات لا تُختزل في نصّ اصطناعيّ، ولا في محاكاة لغويّة أنيقة. إنها تنمو، تتطوّر، وتصير بالمسار والتمرّس جزءًا عضويًّا من الذات الكليّة، لتحمل بالتالي روحًا وهويّة وذاتًا، لا من أداة خارجيّة تُنتِج وتُجمِّل قوالب موحّدة تفتقد الروح والهويّة. ولا تعني هذه الذات أو الهويّة الجمود أو الانغلاق؛ بل إنّها في حالة ديناميّة متواصلة ومتراكمة.
الذات الكاتبة تَعْرِفُ وتُعْرَفُ. من جهة أولى، وفضلًا عن معارفها آنفة الذكر وبفضلها، هي تَعْرِفُ كيف تُميّز بين الأصالة والانتحال، وبين النصّ المكتوب بمداد التجربة والمعرفة المسكون بروح عامرة نابضة، وذلك المصنّع خلسة بآلة. وهو ما تعرِفُه وتميّزُه أيضًا الذات القارئة المتمرّسة. ومن جهة ثانية، هي تُعْرَفُ، حيث يُمكِن معرفة هذه الذات الكاتبة والتعرّف عليها في ومن النّص، ويمكن للنزيهين والنزيهات تشخيصها أسلوبًا، ولغة، ومعرفة، وعمقًا، ونبرة، تشخيصًا متكاملًا لجسد الكتابة وروحها.
عدا عن حالات الانتحال الصارخة، والكتابة الرقميّة الاصطناعيّة الواضحة الخالية من الهويّة والروح والوجدان والتفاعل، وما تُنتجه من تشابه باهت بين مستهلكيها ومستهلكاتها ومخرجاتها، تنطوي الظاهرة على قضايا أخلاقيّة، وقيميّة، ومعرفيّة، وقضائيّة، واجتماعيّة مركّبة. ثمّة مناطق رماديّة تقع، في رأينا، بين ثلاث تصنيفات: الكتابة الأصيلة التي تمتحُ من الذات الكاتبة وتفاعلاتها مع محيطيْها القريب والبعيد، والكتابة التي تتوسّل الاستعانة بتكنولوجيا ما بعد الحداثة، والكتابة الاصطناعيّة المُزيَّفة؛ كما وتظهر مناطق رماديّة أخرى بينها. وتتراوح أيضًا بين الاقتباس الشرعيّ والانتحال المقنّع، وبين الدعم التكنولوجيّ والكسل المعرفيّ. هذه المناطق، كما يبدو، ستُحسَم في حقول وتاريخ وسوسيولوجيا المعرفة.
ختامًا، وقطعًا للشك باليقين، لا يعني ما تقدّم رفضًا للأدوات المستحدثة أو إعلانَ حربٍ على التكنولوجيا، بل يعني ضرورة ترشيد استخدامها، ووضع أخلاقيّات واضحة لضبطها، كما ويدعو إلى التمسّك بالكتابة بوصفها أثرًا إنسانيًّا لا يُحاكى. ففي عصر الإغواء التكنولوجيّ، تغدو الأصالةُ في البحث والكتابة موقفًا معرفيًّا وأخلاقيًّا، لا مجرد اقتدار فكريّ أو لغويّ.